الحرب دفعتهم للعمل.. أطفال غزة يُتقنون لغة السوق بدلاً من اللعب والمدرسة

الحرب دفعتهم للعمل.. أطفال غزة يُتقنون لغة السوق بدلاً من اللعب والمدرسة
أطفال غزة- أرشيف

حوّلت الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ قرابة 20 شهرًا شوارع المخيمات المدمّرة إلى مساحات خالية من الطفولة، وفي طرقات مكسوة بالركام، يمشي أطفال لا تتناسب ملامح وجوههم مع نبرة كلماتهم، بعدما تبدّلت أحاديثهم من دفاتر المدرسة والامتحانات إلى أسعار السكر والدقيق وتكلفة العدس في أسواق شعبية خانقة.

وغيّرت الحرب مسار حياة هؤلاء الأطفال كليًا، وأدخلتهم مبكرًا إلى عالم الكبار، بعدما اضطر كثيرون منهم إلى العمل لمساعدة عائلاتهم التي فقدت معيلها أو شُردت مرات متتالية من منزل إلى آخر، بحسب ما ذكرت وكالة "صفا"، اليوم الثلاثاء.

وتقول المواطنة سجود: "لم أعد أعرف طفلي، كان يركض في الأزقة خلف الكرة، لا يفكر سوى بلعبة جديدة أو موعد المباراة. اليوم، يعود في المساء وفي يده شواكل قليلة، يخبرني أنها حصته من بيع أكياس الماء مع أبناء عمومته".

وتروي بهجة، بحسرة، أنها ضربت ابنها حين عاد لأول مرة ومعه 30 شيقلاً، ظنًا منها أنه حصل عليها بطرق غير سليمة، قبل أن يوضح لها أنه يبيع الماء على مفترقات الطرق في شارع الجلاء وسط مدينة غزة.

وتتابع: "في البداية رفضت تمامًا أن يعمل، أردته طفلًا كما يجب، لكنّه ظل يلحّ عليّ قائلاً: (أنا زلمة كبير، بشتغل عشانك وعشان أختي، ما تخافي علينا، احنا مش بعيدين)".

ويستخدم الطفل هاتف ابن عمه ليطمئن والدته ويأخذ منها قائمة الطلبات، وكأنه ربّ العائلة، بينما تقف والدته مذهولة من هذا التحول المفاجئ في حياته، وتتساءل بحرقة: "كيف يمكن لعالمين أن يتداخلا بهذا الشكل؟ طفولة مفقودة ومسؤولية أكبر من قدرة أجسادهم الصغيرة؟".

لغة السوق بدل أبجديات المدرسة

يقف الطفل محمد نصر، البالغ من العمر 14 عامًا، على بسطة متواضعة في سوق الشيخ رضوان الشعبي، مناديًا بصوتٍ أجشّ: "كيلو العدس بـ18، مش 20! قرب يا بو العيال، اشترِ وطعمي أولادك.. ما عنا استغلال".

ويقول نصر: "أنا بشتغل من الساعة 7 الصبح، بفتح البسطة قبل ما يوصل أبوي، وببدأ أنادي وأخفض السعر شوية، عشان أقدر ألفت انتباه الناس، وعشان يصير إلي زباين بيجوا مخصوص لعندي".

ويُضيف الطفل الذي ترك المدرسة قبل عامين بسبب الحرب: "اشتقنا للمدرسة والامتحانات، بس الجوع ما بينتظر. أنا أساعد والدي عشان نقدر نأكل. ما في خيار تاني".

ويشير إلى أن الأطفال لم يعودوا يلهثون خلف ألعاب أو قصص الكرتون، بل يركضون خلف ما يسد الرمق. "اللي ما بيشتغل، ما بيأكل"، يقولها محمد بحزم، قبل أن يُعدّل بضاعته ويواصل مناداته للمشترين.

النعناع بدل الدمية

يُلاحظ محمد أن "البنات كمان عم تشتغل، بيلفّوا في السوق يبيعوا النعناع والبقدونس، مش بس إحنا الصبيان"، لافتًا إلى أن خط الفقر لم يعد يُفرّق بين ذكر أو أنثى، بل صار الكل مطالب بالمساهمة في الإعالة، حتى الأطفال.

ويؤكد الطفل الطموح أنه يسعى للاستقلال في عمله، بعدما بات له زبائن يسألون عنه وقت غيابه، قائلاً: "نفسي يكون إلي بسطة لحالي، مش مع أبوي، ويصير عندي رزقي الخاص".

وتعكس هذه القصص اليومية واقعًا كارثيًا يعيشه أطفال غزة، الذين باتوا ضحية مركّبة للحرب والفقر وفقدان الأمان. 

وبحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، فإن عدد الأطفال الذين قُتلوا في غزة منذ بدء الحرب بلغ أكثر من 16 ألف طفل، فيما فقد قرابة 39 ألفًا أحد أو كلا والديهم، وهو ما يضاعف مسؤولياتهم ويُجهض طفولتهم.

وتحذر المنظمة من تفاقم الظواهر الخطيرة كعمالة الأطفال والتسرّب المدرسي واضطرابات الصحة النفسية، في ظل استمرار الحرب، وغياب منظومة الحماية، وصعوبة وصول المساعدات الإنسانية.

نهاية حزينة لطفولة مُختطفة

تُختصر ملامح هذه الكارثة في صورة طفل يحمل صندوق أكياس ماء مجمدة في أحد شوارع غزة المحطمة، أو في نداء طفل آخر على بسطة الخضار، أو في دمية ملقاة في أحد المخيمات دون أن يلتفت إليها أحد.

ويُجمع الأهالي في غزة على أن الطفولة سُرقت قسرًا من قلوب أبنائهم، وأن لغة البراءة تلاشت تدريجيًا لصالح حسابات البيع والشراء والبقاء، في وقت تغيب فيه الاستجابة الدولية الجادة لوقف هذا النزيف الإنساني.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية